كتبت صحيفة “الجمهورية” تقول:
بعيداً عن ملهاة الأرقام والأحجام التي أغرقت مرحلة ما بعد الانتخابات النيابية في النكايات والتمريكات المتبادلة بين بعض الاطراف، وبعيداً عن العراضات التي استبقت الاستحقاق المجلسي بمحاولة التحكّم بانتخاب رئيس المجلس وإخضاعه لشروط سياسية وغير سياسية، وبعيداً عن الاحتفاليات الإعلامية التي يقوم بها بعض الفائزين، بأنّ الانتخابات أفرزت واقعاً جديداً عنوانه التغيير، وحَجّمت سياسيين، وكسرت ما تسمّى الأكثرية الحاكمة للبلد والممسكة بزمام القرار، ثمة حقيقة مفجعة تبدّت في المشهد الداخلي، خلاصتها أن كل المشاركين في هذه الملهاة في واد، لا يرون سوى بعين واحدة حدود رؤيتها لا تتخطى مصالحهم وعدد مقاعدهم في المجلس النيابي الجديد، وفي المقابل وطن ينهار، وشعب بات على باب الجحيم الكارثي.
على ما يُقال فإنّ المصيبة تجمع، الّا في المشهد اللبناني فإنّ المصيبة تزداد إيلاماً بعقليّات لا تحسن سوى مدّ هذه المصيبة بما يزيد اشتعالها ويذكّي نارها أكثر، كما هو الحال في هذه الأيام التي يتعرّض فيها لبنان واللبنانيون لإعدام جماعي يهدد بسقوط الهيكل اللبناني على رؤوس الجميع. فأيّ قيمة لأرقام أو أحجام او أكثريات أو أقليات حينما يتحوّل البلد إلى أطلال لا حياة فيه؟
الواقع مفجع
كل الوقائع الداخلية تؤشّر الى تسارع في مسار الانهيار، وثمة سؤال بات اكثر من مشروع في ظل ما يجري: هل اتخذ قرار ما من مكان ما بإسقاط لبنان نهائيا؟ وما الذي يمنع اطراف الداخل كلها الى التلاقي حول خطة طوارىء لكبح هذا المسار وانقاذ ما يمكن انقاذه؟
لبنان في ظل هذا المسار، يبدو انه يُقاد الى خراب امام أعين الجميع؛ الناس، كل الناس تتعرض للقهر والإذلال، وسقف الدولار بَدا نهاراً مفتوحاً على غاربه وبدأ يطرق باب الثلاثين الف ليرة وغرف السوق السوداء في ذروة فلتانها، ومع الدولار عالياً تحلّق الاسعار، وتختفي الاساسيات وتُحتكر، والمواطن، بكل فئاته وطبقاته، صار وقوداً للنار.
المربع الاخير
يقول احد الخبراء الاقتصاديين لـ«الجمهورية»: «انّ لبنان دخل المربع الأخير من مؤامرة إسقاطه نهائياً في النار الاجتماعية والمعيشية، ولن يطول الامر مع ذلك ليتعالى الصراخ من الجوع والإفقار».
أجندة خبيثة
هذه الصورة المخيفة، تلاقيها مخاوف مصادر سياسية مسؤولة مما وصفته «مستقبل مُعتم»، وقالت لـ«الجمهورية»: ما يجري في لبنان، منذ صدور نتائج الانتخابات النيابية، والانهيار المتسارِع على كلّ الصّعد، أخشى أن يكون مندرجا ضمن «سياق منظّم» لإخضاع البلد لأجندة خبيثة محرّكة من «مكان ما»، لإيصال لبنان إلى لحظة تنعدم فيها سبل الانقاذ».
وتسأل المصادر «إلامَ يرمي تفخيخ لبنان بهذا التوتير الاجتماعي والمعيشي؟». وتجيب: «من حق اللبنانيين ان يوجّهوا اصابع الاتهام في كل اتجاه، وان يسألوا أي يد خفيّة محلية كانت او خارجية تقود هذا الانهيار؟ ولكن ما يبعث على الاسف والحزن والريبة في آن معاً، هو ان الانهيار يتحرّك والبلد يغرق بوتيرة شديدة الخطورة، ومكونات السياسة والنيابة غارقة في عالمها الانقسامي».
قلق دولي
على انّ اللافت في هذا السياق، ووفق معلومات موثوقة لـ«الجمهورية» ما نقله مسؤولون كبار في دولة اوروبية الى مرجع مسؤول خلال الساعات الاربع والعشرين الماضية، من مخاوف جدية على لبنان. حيث قيل للمرجع المذكور ما حرفيته: «علّقنا الأمل على ان تشكل الانتخابات النيابية في لبنان محطة انتقالية الى واقع افضل يتشارَك جميع اللبنانيين في الوصول اليه، ولكن التقارير التي تردنا حول التطورات في لبنان زرعت لدينا قلقا بالغا على بلدكم ومن واقع صعب ومؤلم جداً لا حدود فيه لمعاناة الشّعب اللبناني، وهو أمر يوجِب أن يتلاقى القادة والمسؤولون في لبنان، سواء في مجلس النواب او على مستوى الحكومة التي نرى ضرورة ان يتم تشكيلها سريعاً، على نقاط مشتركة يتمكّنون من خلالها إنقاذ الشعب اللبناني من المعاناة الكبرى التي تتهدده».
مخاوف ديبلوماسية
وبحسب معلومات «الجمهورية» فإنّ حركة مشاورات جرت في الايام الأخيرة بين بعض البعثات الديبلوماسية الغربية في بيروت، وبحسب مصادر ديبلوماسية مُشاركة فيها فإنّ هذه المشاورات عكست حالاً من عدم الإطمئنان، وتم التوافق على توجيه تحذيرات بهذا المعنى الى المسؤولين الرسميين والسياسيين في لبنان قبل فوات الاوان».
وقالت مصادر ديبلوماسية غربيّة لـ«الجمهورية»: لقد سبق للمجتمع الدولي ان اكد وقوفه إلى جانب الشعب اللبناني والتزم بتوفير الدعم له. اما في الواقع الراهن الذي يمر به لبنان، فإنّ ما يهمّ الاسرة الدولية بالدرجة الاولى هو إبقاء حال الاستقرار قائمة في لبنان، ومُسارعة السلطات فيه الى اتخاذ مبادرات تصب في ذات الهدف، خصوصاً ان الوضع الحالي يبعث على القلق».
الا ان المصادر عينها لفتت الانتباه الى انّ المجتمع الدولي على التزامه تجاه لبنان، ولكنه في الوقت نفسه يرغب في ان يرى التزاما مماثلا من داخل لبنان، نحن نشعر بقلق وخوف من ان تأخّر المبادرات الجادة والمسؤولة من قبل قادة هذا البلد، سيقرب من دخول لبنان في تعقيدات اكبر، ومجهول لا يمكن لأحد ان يقدر ما ينتظره فيه».
تطمين
وفي موازاة ما لفتت اليه المصادر حول تقارير عن «مخاوف اللبنانيين من بلوغ حال من الفوضى، في ظل الارتفاع المتزايد لمعدلات الجريمة والسرقات، والاعمال المسلحة في اكثر من منطقة»، سألت «الجمهورية» مرجعاً أمنياً حقيقة الأمر فأكّد ذلك، مشيراً الى انّ القوى الامنية، ورغم امكاناتها المتواضعة جراء الازمة، تقوم بواجباتها في هذا المجال، وتردع المرتكبين.
وطمأنَ المرجع إلى «ان الاجهزة العسكرية والامنية في أعلى درجات جهوزيتها لحماية الاستقرار وضمان امن اللبنانيين، ولن تسمح بالمسّ بذلك. كما انّها ستواجه بكل قوة وردع أي محاولة لإحلال الفوضى وسيادة شريعة الغاب، ما نؤكد عليه الآن هو انّ الأمن مُصان وليس ما يدعو الى القلق من سيناريوهات غير واقعية».
إستعجال الحكومة
الى ذلك، وفيما أكدت وكالة «فيتش» أنّ «خروج لبنان من وضع التخلف عن سداد الدين لا يزال صعباً بعد الانتخابات غير الحاسمة»، توالى التأكيد الرسمي الاوروبي على ضرورة تشكيل حكومة جديدة سريعاً في لبنان.
وقال الناطق الرسمي باسم الاتحاد الأوروبي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لويس ميغيل بوينو، في حديث لـ«العربية»، انّ «الاتحاد يحثّ على ضرورة الإسراع في تشكيل حكومة جديدة في لبنان، والسعي إلى إجراء الإصلاحات الضرورية في البلاد».
واضاف: «نتوقّع من مجلس النواب الجديد المنتخب أن يدعم عملية سريعة لتشكيل الحكومة، وأن يعمل على اعتماد جميع التشريعات وتنفيذ الإصلاحات اللازمة لتحسين الحوكمة والاستقرار الاقتصادي بما يخدم لبنان وشعبه، وكذلك على البرلمان الجديد أن يساهم في تنفيذ الإجراءات المسبقة المطلوبة في الاتفاق على مستوى الموظفين، الموقّع مع صندوق النقد الدولي في 7 نيسان الماضي، من أجل المباشرة ببرنامجٍ للصندوق».
وكرّر «ضرورة القيام بالإصلاحات اللازمة لضمان أمن واستقرار وازدهار مستدام للبنان واللبنانيين».
ورداً على سؤال رجّح الناطق الرسمي الاوروبي «إجراء الانتخابات الرئاسية والبلدية اللبنانية في موعدهما، بما يتماشى مع المبادئ»، مشيراً إلى أن «الاتحاد الأوروبي سيواصل الوقوف إلى جانب لبنان وشعبه، خاصة أن هذا الدعم مستمر منذ عقود ولم يتوقف، ففي عام 2020 وحده، قدم الاتحاد حوالى 333 مليون يورو لمساعدة البلاد. ونحن على استعداد للاستمرار في مساعدته بعد إبرام اتفاقٍ مع صندوق النقد الدولي».
الاستحقاق المجلسي
سياسياً، لا تبدّل في خريطة مواقف الاطراف السياسية والنيابية من استحقاق انتخاب رئيس المجلس النيابي، وسط النتيجة المُسلّم بها مسبقاً بفوز الرئيس نبيه بري بولاية مجلسية جديدة، فيما تعجّ الصالونات والاروقة السياسية بحركة مشاورات حول وجهة الاصوات في جلسة الانتخاب التي تحددت الثلاثاء المقبل، حيث يرجّح ما يرشح عن هذه المشاورات نيل الرئيس بري اكثرية نيابية تفوق الـ65 صوتاً.
الا انه في المقابل، تتزايد الحماوة الانتخابية حيال موقع نائب رئيس المجلس، في ظل وجود عدد من المرشحين المفترضين لهذا المنصب. وعلى رغم الاجواء التي شاعت من اوساط التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية بأنهما ليسا معنيين بهذه الانتخابات، فإنّ التيار حسمَ في الساعات الماضية توجّهه لترشيح عضو تكتل لبنان القوي النائب الياس بوصعب لمنصب نائب رئيس المجلس. وفي الوقت ذاته لم تستبعد مصادر حليفة لحزب القوات ترشيح النائب غسان حاصباني، في وقت بقي اسم النائب ملحم خلف مُتداولاً في بعض الاوساط النيابية.
وعلمت «الجمهورية» انّ انتخاب نائب الرئيس كان محور سلسلة اتصالات جرت في الساعات الماضية من قبل كتل نيابية كبرى ببعض الجهات النيابية طلباً لدعم مرشحها لهذا المنصب، كذلك نشط أحد المرشحين في إجراء اتصالات بالكثير من النواب طالِباً دعمهم.
وبحسب ما تؤشّر الاجواء السابقة لجلسة الثلاثاء فإنّ الأمر، وإن كان محسوما لناحية انتخاب بري، الا انه بالنسبة الى انتخاب نائب الرئيس ستسوده تعقيدات كبيرة تحول دون بلوغ تفاهمات بين القوى النيابيّة حول ايّ من مرشحي الكتل الكبرى، ما لم تسبق ذلك «تسوية ما» تُفضي الى تفاهمات مسبقة تعدّل مسار الانتخاب. كَون أيّ من الكتل الكبرى، ومن دون هذه «التسوية»، غير قادر على حشد الاكثرية النيابية دعماً لمرشحه بالنظر الى التباينات القائمة.
وإنّ نجاح مرشح «التيار» في ظل عدم وجود «تفاهم مسبق» علني او ضمني، بحسب مصادر نيابية، يفرض ان يحظى بتأييد كتل اخرى، اذ انه قد يحظى بدعم نواب «حزب الله»، الا انه سيجد صعوبة في حشد دعم اطراف اخرى بالنظر الى العلاقة الاشتباكية التي تربطه بهم، والامر نفسه ينطبق على «القوات» التي قد لا تجد داعماً لمرشحها سوى نواب كتلة الجمهورية القوية مع بعضٍ محدود من النواب الذين يسمّون أنفسهم تغييرين او سياديين، خصوصاً ان سائر الكتل الأخرى تقف معها على اشتباك متبادل.
وتبعاً لذلك، وفي غياب «التسوية المسبقة»، لم تستبعد المصادر النيابية حصول مفاجأة في انتخاب نائب رئيس المجلس، بحيث انّ الاحتمال الاكثر ترجيحاً امام انسداد طريق الكتل الكبرى الى منصب نائب الرئيس، هو انتخاب احد النواب الارثوذكس المستقلين من خارج دائرة الاحزاب.
الدولار ارتفاع فهبوط
وكان سوق الدولار قد شهد أمس إرباكاً كبيراً، حيث فتح في فترة الصباح على قفزة الى ما فوق 37 الف ليرة، ليعود في فترة بعد الظهر ويهبط سبعة آلاف ليرة، بعد بيانَين لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة موجّهَين الى المصارف والى حاملي الليرة اللبنانية، حيث قال في الأول: «على المصارف اللبنانية ابتداءً من يوم الإثنين المقبل وذلك لثلاثة أيام متتالية ان تُبقي على فروعها وصناديقها مفتوحة يوميًا حتى الساعة السادسة مساءً لتبية طلبات المواطنين من شراء الدولارات على سعر sayrafa لمَن سلم الليرات اللبنانية كما دفع معاشات الموظفين في القطاع العام بالدولار أيضًا على سعر Sayrafa».
وقال في البيان الثاني: «بناء ً على التعميم ١٦١ ومفاعيله وعلى البندين رقم ٧٥ و٨٣ من قانون النقد والتسليف، بيان موجّه الى جميع حاملي الليرة اللبنانية من مواطنين ومؤسسات ويريدون تحويلها الى الدولار الاميركي. يُطلب منهم التقدّم بهذه الطلبات الى المصارف اللبنانية إبتداءً من يوم الاثنين المقبل وذلك على سعر SAYRAFA على ان تتم تلبية هذه الطلبات كاملةً في غضون ٢٤ ساعة. وهذا العرض مفتوح ومُتاح يوميًا».
السبب خارجي
الى ذلك، لفت ما قاله وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال يوسف الخليل، لوكالة سبوتنيك بأنّ «أسباب ارتفاع سعر صرف الدولار في أسواق البلاد مرتبط إلى حد كبير بعوامل خارجية». مؤكداً ان «لا فلتان في سوق القطع».
وأشار وزير المالية إلى أن «منصّة «صيرفة» تتم عبرها أغلبية العمليات بسعر يتراوح بين 22 و24 ألف ليرة لبنانية، وهي عملية تخضع للتدقيق يومياً من قبل مؤسسات مالية ونقدية عالمية».
الاسعار
الى ذلك، كشف وزير الاقتصاد والتجارة في حكومة تصريف الأعمال أمين سلام أنّ «النقابات أكدت أنّ أسعار السلع ترتفع بشكل متوازٍ مع سعر صرف الدولار. وحذّر التجار، خلال إطلاق المجلس الوطني لسياسة الأسعار، قائلاً: «مَن يريد استغلال حاجة الناس سنكون له بالمرصاد»، مشيراً الى انّ «ما حَدا بيتحمّل شو رح يصير»، فنحن متوجّهون نحو الإنهيار وعلى الجميع أن يتحمل مسؤولياته». وأعلن أنه سيدعو بشكل طارئ إلى اجتماع للمجلس الوطني لسياسة الأسعار لأننا «اليوم في حالة طوارئ، «وما فينا نكفّي هيك».