شكّل خِطاب 9 حزيران 2022، 20:35، مُنعطفاً جوهريّاً في ملفّ ترسيم الحدود البحريّة الجنوبيّة مع كيان العدوّ، ورافِداً استثنائيّاً للبنان في مسعاه لتحصيل حقوقه في ثرواته، وأضاف القوّة إلى الحقّ كَسَنَدٍ ضروريٍّ في سبيل تعظيم المصلحة الوطنيّة. أعقب الخطاب وصولَ سفينة الإنتاج إلى المياه العربيّة المحتلّة في 5 حزيران للشروع في الإنتاج من حقل كريش. وصول سفينة الإنتاج أحدثَ موقفاً لبنانياً رسميّاً تلا اجتماع الرئيسين ميشال عون ونجيب ميقاتي، أكّد على تمسّك لبنان بحقوقه وثرواته البحريّة واعتبار أنّ أيّ أعمال استكشاف أو تنقيب أو استخراج يقوم بها كيان العدوّ في المناطق المتنازع عليها تشكّل استفزازاً وعملاً عدوانيّاً يهدّد السلم والأمن الدوليّين. موقف الرئيسين تبِعه كتاب رئاسة مجلس الوزراء لوزراء الأشغال العامّة والنقل والدفاع والخارجيّة والمغتربين بتاريخ 11 حزيران 2022 سمّى، بلا مواربة، حقل كريش بالحقل المتنازع عليه.
نموذج لما يُرجّح كاتّفاق مبدئي يُطبَخ، يُعطي «جيباً ما» حول حقل قانا المُحتمل للبنان بينما يُعطي للعدوّ بالمقابل «جزءاً ما» من البلوك الرقم 8. «التفاصيل»، على تعقيدها، تُترك للناقورة | انقر على الصورة لتكبيرها
لبنان الرسمي «المتفاجئ» بوصول سفينة الإنتاج هرع إلى الطلب من الوسيط الأميركي النزيه للقدوم إلى بيروت لاستئناف وساطته وسلّمه عَرْضاً لبنانيّاً شفهيّاً موحّداً أكّده المسؤولون الكُثُر الذين اجتمع بهم آموس هوكشتاين كلّ على حدة. غادر هوكشتين إلى بلاده والتقى، عن بُعد، مسؤولي العدوّ لإطلاعهم على العرض اللبناني.
بُعَيد زيارة هوكشتين لبيروت، والتي اختُتِمت في 15 حزيران 2022، تسرّب إذاً «مطلبٌ لبنانيٌّ مُوحّدٌ» عُرِف بالـ 23+، والذي يُعطي لبنان كامل المساحة شمال الخطّ البائد المشكوك المنشأ 23 بالإضافة إلى «جَيبٍ ما» حول حقل قانا المُحتمل. بعد أسبوعين من مغادرة هوكشتين، زارت السفيرة الأميركية الرئيس عون ومسؤولين آخرين لإطلاعهم على نتائج اتّصالات هوكشتين مع العدوّ بخصوص العرض اللبناني.
الحَدَث المفصليّ الآخر شكّلته مُسيّرات السبت 2 تمّوز 2022 الثلاث. رسالة القوّة تلك كانت لتشكّل دفعاً لا سابق له للموقف اللبناني لو ووكِبت بموقفٍ رسميٍّ يُسيّلُها صلابةً في الموقف اللبناني. لم يَطُل الوقت، كالعادة وللأسف، حتّى صدرت الإدانة لتلك العمليّة عقب اجتماع ميقاتي-بوحبيب. بين تحذير 9 حزيران ورسالة 3 تمّوز، من جهة، وتحضيرات العدوّ لبدء الإنتاج من حقل كريش، من جهة أخرى، وتزامناً مع زيارة هوكشتين اليوم كيانَ العدوّ من ضمن الوفد المرافق للرئيس الأميركي، يعيش ملفّ الترسيم أيّاماً حاسمةً يحاول هذا المقال قِراءة محاذيرها ومآلاتها.
قِراءة في مجريات المفاوضات
بعد ردّ العدوّ الشفهي الذي نقلته السفيرة الأميركيّة، وبناءً على تسريبات الصحف وتصريحات المسؤولين، تبدّد الطرح اللبناني 23+. يمكن أن نقرأ مجريات المفاوضات على ما يلي:
لبنان طلب الخطّ 23+ ويبدو أنّ التنازل عن هذا المطلب لم يستغرق سوى أيّام فكان تصريح الوزير عبدالله بوحبيب في 3 تمّوز حيث لمّح إلى إمكانيّة تلبية مطلب العدوّ بمساحة ما مقابل حقل قانا المُحتمل على أن تكون المساحة النهائية للبنان 860 كلم2. الوزير بوحبيب صرّح بمبدأ القبول بـ«تنازلات ما» شمال الخط البائد المشكوك المنشأ 23 مقابل الحصول على حققانا المُحتمل كاملاً. المطلب اللبناني الذي عبّر عنه بوحبيب في مسلسل التنازلات «اشترط» إذاً أن تكون المساحة النهائية 860 كلم2. وهو مطلب على الأرجح لن يدوم وسنرسو بالنتيجة على ما هو أقلّ من ذلك. النتيجة بالتالي ستكون، بحسب مسار الأمور، وفي أحسن الأحوال، خطّاً متعرّجاً كالظاهر في الرسم التوضيحي.
العدوّ رحّب بتخلّي لبنان الرسمي بطرحه الـ 23+ عن الخطّ اللبناني 29 ورَفَض بالمقابل المطْلب اللبناني بكامل حقل قانا المُحتمل. انتقل التفاوض إذاً إلى المنطقة بين الخطّين اللاشرعيين 1 و23 مع «جيب ما» حول حقل قانا المُحتمل. تجدر الإشارة إلى أنّه، وبحسب اتّفاقيّة الأمم المتّحدة لقانون البحار، المفاوضات الحقيقيّة كانت يجب أن تدور بين خطّ هوف والخطّ اللبناني 29 الّلذين يتبعان قاعدة خطّ الوسط. فخطّ هوف يعطي كامل تأثير لصخرة تخليت، والخطّ اللبناني 29 لا يعطي أيّ تأثير لتلك الصخرة لما لتلك الصخرة من تأثير غير متناسب يتعارض مع «مبدأ الإنصاف». الحلّ النهائي والاتّفاق كانا ليعطيان أرجحيّة كبيرة للبنان من الناحية القانونية وبخاصّة بعد قرار محكمة العدل الدوليّة السنة الماضية في النزاع البحري بين كينيا والصومال حيثُ أهمل الحكم تأثير جُزُرٍ أكبرَ بكثير من تخليت وعلى نفس البُعد من الشاطئ كبُعد تخليت.
لا أستبعد بالتالي اتّفاقاً مبدئيّاً أو «اتّفاق إطار» جديداً وقريباً، أي قبل حلول أيلول المقبل، الموعِد المُرتَقَب لبدء الإنتاج من حقل كريش، تبدأ على أساسه جولة جديدة من المفاوضات غير المباشرة في الناقورة. اتّفاق الإطار الجديد هذا يقوم على: حقل قانا المُحتمل للبنان وقسم من البلوك الرقم 8، بالمقابل، لكيان العدوّ. جولة المفاوضات غير المباشرة المقترحة ستشمل أمرين إذاً: تحديد حقل قانا المُحتمل والمساحة التي سيعطيها لبنان للعدوّ من البلوك 8. التالي بعض النتائج والمحاذير (عِلماً أنّ الخطّ اللبناني 29، وهو الأمتن قانونياً بين كلّ الخطوط، يكون قد دُفِن إلى الأبد ومعه أيّ مطلب لبناني بأيّ حقّ شمال هذا الخطّ؛ نكون بالتالي قد ضيّعنا فرصة الحصول على مساحات كبيرة غنيّة بالثروات جنوب الخطّ 23).
السؤال الكبير: من سيحدّد امتداد حقل قانا المُحتمل؟ هل هو لبنان؟ أم العدوّ؟ أم لجنة تقنيّة مشتركة؟ أم سيؤول ذلك التحديد إلى طرفٍ ثالثٍ؟ ما هو الأساس التقني الذي سيُحدّد على أساسه حقل قانا المُحتمل؟ ومتى سيُحدّد حقل قانا المُحتمل؟ التحدّي يعود إلى انعدام إمكانيّة تحديد امتداد الحقل إلى حين الحفر والتقييم. هل سيُترك هامش ما إلى حين الحفر لتحديد امتداد الحقل؟ هل سيكون هناك اتّفاق مبدئي على امتداد الحقل المُحتمل بِناءً على الدراسات الموجودة حاليّاً مع التأكيد بأنّ كلّ ما يُثبته التنقيب والتقييم في المستقبل بأنّه جزء
من حقل قانا يعود للبنان؟
هل سيأخذ لبنان في الحسبان المكامن المُحتملة في البلوك الرقم 8 عند تمرير المِبضَع الذي سيشطر البلوك إلى قسمين واحد للبنان والآخر للعدوّ؟ ما هو دور هيئة إدارة قطاع البترول في هذا المضمار؟ أَخْذ المكامن المُحتملة في البلوك الرقم 8 في الحسبان سيؤدي إلى خطّ «بتعرّجاتٍ كثيرة». فأيّ خطّ مستقيم في البلوك الرقم 8 سيترُك، على الأرجح، مكامِن مشتركة ستكون طريقة استثمارها جزءاً من مفاوضات الناقورة المفترضة. تجدر الإشارة إلى أنّه مهما فعلنا وأيّاً يكن الخطّ النهائي، سنقع يوماً ما على مكمنٍ مشتركٍ بيننا وبين كيان العدوّ، على لبنان أن يكون جاهزاً لمقاربة هذا المُعطى.
«اتّفاق الإطار» الجديد سيُريح العدوّ في حقل كريش وسيكون صافرة البداية لمفاوضات تقنيّة معقّدة قد نعرف كيف تبدأ ولا نعرف كيف تنتهي. وفي هذا المضمار، المفاوضات التقنيّة المعقّدة والتي ستُبتّ على أساسها المسائل التقنيّة الشائكة يُخشى أن تكون «بمذاق تطبيعي». هكذا مفاوضات ستتطلّب، في حال قرّر لبنان تحاشي المطبّات خلال التنقيب والتطوير والإنتاج، نقاشات تقنيّة طويلة قد تبدأ غير مباشرة وتتحوّل إلى مباشرة حين يحمى وطيس النقاش والجلسات.
السماح للبنان بالتنقيب كشرط لبناني
جرى التركيز في الفترة الأخيرة على توازي أهمّية السماح للبنان ببدء التنقيب مع أهميّة الترسيم. التالي مُحاولة لفهم مفاعيل المَطلب اللبناني المتعلّق بالخطوات العملانية في مجال السماح للشركات العالمية بالمباشرة بالتنقيب في المياه اللبنانية. ماذا يعني هذا المَطْلب؟
للتذكير، كرّر هوكشتين مِراراً مقولة امتناع الشركات العالميّة عن التنقيب في المياه اللبنانية بغياب «بيئة مؤاتية» خالية من المخاطر. هوكشتين ربط عمليّاً بدء التنقيب في مياهنا ببتّ مسألة الحدود الجنوبيّة مع كيان العدوّ. لا اتّفاق، لا تنقيب. وللتذكير أيضاً بأنّ المناكفات السياسيّة وسوء الإدارة هما سبب أساسي في تأخير البدء بالتنقيب. فلو قُيّض للبنان استكمال دورة التراخيص الأولى سنة 2013 لكنّا الآن، على الأغلب، في وضع مختلف تماماً.
البلوكات اللبنانية قِسْمان: البلوكان 4 و 9 المُلزّمان للكونسورتيوم «توتال-إيني-نوفاتيك» منذ كانون الثاني 2018، وباقي البلوكات الثمانية المعروضة ضمن دورة التراخيص الثانية التي مُدّدت حديثاً إلى آخر السنة الجارية. هذا لا يتضمّن المنطقة «اليتيمة» بين الخط البائد المشكوك المنشأ 23 والخط اللبناني 29.
في ما خصّ البلوكين 4 و 9: «إطلاق يد» «توتال» عبر اتّفاقية ترسيم قد يدفعها إلى بداية العمل على حفر بئر التنقيب الأول في البلوك الرقم 9 ويجدر بهذه البئر أن تكون في حقل قانا المُحتمل. هذا يعني، عملياً، أنّ الحفر قد يحدث خلال السنة القادمة (2023) على أقرب تقدير. كلّ هذا ولم نأخذ في الحسبان العقوبات المفروضة على شركة «نوفاتيك» الروسيّة بسبب الأزمة الأوكرانية وتأثير تلك العقوبات على استمراريّة الكونسورتيوم.
أمّا بخصوص بلوكات دورة التراخيص الثانية، فهذه ستستقطب الاهتمام غداة توقيع اتّفاقية ترسيم مع العدوّ تِبْعاً للأهمية المتزايدة للغاز وأسعاره الفلكيّة. الثروات المُحتملة في البلوكات اللبنانية وغياب عامل المخاطرة بسبب توقيع الاتّفاق مع العدوّ والأسعار غير المسبوقة للغاز بسبب الأزمة الأوكرانية التي ستطول آثارها، كلّها أسباب كفيلة باستقطاب الشركات. على أنّ بداية التنقيب ستستغرق وقتاً حتى لو وقّع لبنان اتفاقية ترسيم مع العدوّ وحتى لو تقدّمت عِدّة شركات بعروض (بضوءٍ أخضر وحتّى تشجيعٍ أميركي) في دورة التراخيص الثانية. بين دراسة العروض واختيار الشركات وقيام تلك الشركات بالدراسات والتحضيرات اللازمة، لن يبدأ الحفر في هذه البلوكات قبل سنتين إلى ثلاث.
هوكشتين من يُحدّد إطار المفاوضات
أثبتت زيارة هوكشتين أنّ الإطار الحقيقي للمفاوضات يرسُمه آموس هوكشتين في إطلالاته الإعلاميّة. هو، لا غيرُه. الإطلالات الإعلاميّة التي لا تهدف إلى تعرِية الممسكين بالملفّ فحسب، بل إلى رسم الخطوط الحُمر التي لن يُسمَح للبنان تخطّيها. ففي إطلالته الإعلاميّة الأولى في تشرين الأوّل 2021 كرّس هوكشتين ثلاث معادلات دونما أيّ اعتراض رسمي لبناني على تصريحاته: انسوا حقل كريش، فهو أصبح وراءكم، انسوا حكم محكمة العدل الدوليّة في نزاع كينيا-الصومال، فحالتهم لا تشبه حالتكم (رغم التطابق الكبير بين الحالتين) وانسوا التنقيب في مياهكم ما لم تُرسّموا، بشروط العدوّ. فالشركات الأجنبيّة تبحث عن الاستقرار وهو غير موجود عندكم.
جولة المفاوضات غير المباشرة المقترحة ستشمل أمرين إذاً: تحديد حقل قانا المُحتمل والمساحة التي سيعطيها لبنان للعدوّ من البلوك 8
وفي إطلالته الثانية في شباط 2022، خلال زيارته الثانية لبيروت من ضمن إطار وساطته الأخيرة، كرّرها هوكشتين مرّتين؛ هي مفاوضات بين خطّين: خطّ العدوّ الرقم 1 والخطّ البائد المشكوك المنشأ 23. كل كلام آخر لا مكان له على طاولة المفاوضات.
وفي إطلالته الإعلاميّة الثالثة في زيارته الأخيرة، قالها بالفم الملآن: الضعيف الذي لا يملِك الخيارات ويرضى بالفُتات الذي يُلقى له. خياره الآخر اللاشيء الذي عنده الآن. فالحقّ لا يعني شيئاً في عالم المفاوضات. دعوا الشعارات والكلام الكبير عن قانا مقابل كريش، فهذا كلامٌ أكبر منكم.
خلاصة
الاتّفاق المُزمع مع العدوّ سيفتح الباب أمام مفاوضات عسيرة في الناقورة لتحديد جوانبه التقنيّة. بينما ليس هناك أيّ ضمانة لنجاح تلك المفاوضات، اتّفاق الإطار الجديد بحدّ ذاته سيُسرّح يد العدوّ في حقل كريش وفي كامل المنطقة جنوب الخط الجديد. هذا بطبيعته مصلحة للعدوّ أكثر بكثير منه للبنان إذ يسمح للعدوّ بتسريع الإنتاج من كريش دون أيّ محاذير وتسريع التنقيب في هذه المنطقة الغنيّة. فالعدوّ يملك البنى التحتيّة التي تسمح له بالإنتاج والتصدير وسيعمل على تعزيزهما مستغلّاً حاجة أوروبا إلى الغاز في السنوات القادمة. فطاقة سفينة الإنتاج، مثلاً، هي أكبر بكثير ممّا سيبدأ حقل كريش إنتاجه وتستطيع استيعاب شمال كريش والحقل الجديد المُكتشف، أولمبس.
لبنان يكون قد خسِر، عبر الاتفاق قيد الطبخ، وإلى غير رَجْعة، الفرصة التي سنحت عبر الخطّ اللبناني 29. فنحن نعيش في بلد يُتقِن فنّ الخطايا والتفريط بالمصلحة الوطنيّة. الفرصة الآن هي الأنسب للضغط على العدوّ والوسيط من أجل شروط أفضل بكثير للبنان. ليس بسبب ورقة القوّة الثمينة التي تؤمّنها المُقاومة فحسب، وإنّما أيضاً بسبب حاجة العدوّ إلى بيع أكبر كميّات ممكنة من الغاز في أقرب وقت لأوروبا وما سيشكّله ذلك من قيمةٍ اقتصاديّةٍ سببها أسعار الغاز الخياليّة وتموضع استراتيجيّ للعدوّ كرافدٍ للغاز للأسواق الأوروبيّة المتعطّشة لذلك لسنواتٍ كثيرةٍ قادِمة