تأبى السنة في أيامها الاخيرة إلا ان تودّع لبنان بمزيد من الكوارث السياسية والاقتصادية والمالية، فعلى وَقع التعقيدات التي تمنع إنجاز الاستحقاق الرئاسي تتناسل الازمات يوماً عبر ما تعيشه السلطة بكل مستوياتها من “خبط عشواء” بحيث انها تتخذ قرارات وإجراءات تغلّفها بهدف لجم الازمات ليظهر انها تزيد من تفاقمها، كالقرار “الهمايوني” لحاكم مصرف لبنان أمس برفع سعر الدولار على منصة صيرفة نحو عشرة آلاف ليرة دفعة واحدة مُصيباً عامة اللبنانيين بارتفاعات جنونية في الاسعار من فاتورة الهاتف الخلوي صعوداً الى رواتب الموظفين في القطاعين العام والخاص وصولاً الى المواد الاستهلاكية على كل انواعها. فهذا الاجراء ظاهِريّاً لجم الدولار عن الوصول الى الخمسين الف ليرة، ولكنه ثبّته عند سعر الـ 45 الف ليرة الذي يبقى قابلاً للارتفاع في اي وقت. علماً ان مراقبين وصفوا ما يجري بأنه سباق بين سوق “صيرفة” والسوق السوداء على الدولار وكلاهما اسعار دولارهما نار.
وقد اعترف مرجع رسمي بأن لا حل واقعيا وحقيقيا لأزمة صعود سعر الدولار في ظل استمرار تهريب العملة الخضراء ونشاط مافيات بعض الصرّافين. وأقرّ هذا المرجع أمام زوّاره بأنّ “اي إجراءات تُتخذ لخفض سعر الدولار ما هي إلّا مسكنات موضعية يعود بعدها الى الارتفاع”، مشيراً الى “انّ المعالجة الجدية لهذه المشكلة تبدأ بانتخاب رئيس جديد للجمهورية يكون عامل التقاء لا عامل اختلاف”.
الى ذلك، نقلت مصادر سياسية لـ”الجمهورية” عن رئيس مجلس النواب نبيه بري تأكيده انه لن يدعو مجدداً الى الحوار حول الاستحقاق الرئاسي “لأنني دعوت اليه مرتين ولم يكن هناك تجاوب، ولذا لا مبرر لتكرار المحاولة”.
وفي هذه الاجواء التقى بري أمس رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي اكتفى بعد اللقاء بالقول: “زيارتي اليوم لدولة الرئيس نبيه بري، لمناسبة الأعياد. تمنيت له عاما سعيدا مليئا بالصحة والعافية والاطمئنان والإزدهار لوطننا لبنان، وفي طبيعة الحال تخلّل اللقاء بحث لأمور متعددة متعلقة بسير أمور الدولة وأخذتُ رأيه. ونحن على خط واحد ومتابعة دائمة مع دولته”.
والتقى بري عضو “اللقاء الديموقراطي” النائب وائل ابو فاعور موفَداً على ما يبدو من رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، وعرضَ معه الأوضاع والمستجدات السياسية. وقال ابو فاعور انّ “دولة الرئيس يلهج ونلهج معه بالدعوة الى الحوار، ليس لأنه لدينا هوس للحوار، بل لأن الحوار هو السبيل الوحيد للخروج من هذه الازمة”. واضاف: “الحل سياسي، والحل الإقتصادي لا يمكن ان يقوم إلا بناء على حل سياسي والحل بالسياسة يبدأ بإعادة تشييد بنية الدولة. وبنية الدولة تبدأ برئاسة الجمهورية ثم في وقت لاحق الحكومة”. واعتبر ان أي مبادرة خارجية في شأن رئاسة الجمهورية “اذا لم تترافق مع حراك ودينامية داخلية لا يمكن ان تؤدي الى اي نتيجة”. وسأل: “كيف يمكن الوصول الى رئيس للجمهورية اذا لم نتحاور مع بعضنا البعض؟”. وقال: “نحن نتحاور مع “التيار الوطني الحر” ومع من نَتشارك نحن وإيّاهم بالخيار الرئاسي المشترك، وكما قلت منذ يومين وليد جنبلاط لن يترك باباً من أبواب الحوار إلّا وسيطرقه. هذا هو الحل الوحيد”. وقال: “حتى اللحظة الحوارات التي تجرى هي بداية تَلمّس خطوات مستقبلية لكن حتى اللحظه لا يمكن ان نغشّ أنفسنا او نغش اللبنانيين ونقول هناك مؤشرات إيجابية، انما بداية تلمّس سبيل للحوار من اجل الوصول الى نتيجة”.
إطلالة لنصرالله
وفي هذه الأجواء يطلّ الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله عند الثامنة والنصف مساء بعد غد عبر قناة “المنار”، متحدثاً عن مجمل التطورات السياسية المحلية. وقالت مصادر مطلعة لـ”الجمهورية” انه سيتناول عناوين عدة أبرزها الاستحقاق الرئاسي والتطورات المحيطة به، لا سيما منها التحركات الخارجية التي رصدها اللبنانيون. كذلك سيحدد موقف الحزب مما يجري في المنطقة عشية تَسلّم رئيس الحكومة الاسرائيلية الجديدة بنيامين نتنياهو مهماته.
أزمة المراسيم
وحضرت أمس “أزمة المراسيم” الخاصة بقرارات جلسة الخامس من كانون الأول الحكومية في السرايا الحكومية على طاولة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في اجتماعه الصباحي مع وزير الدفاع الوطني موريس سليم. وفي الوقت الذي اكتفى فيه مكتب الإعلام في السرايا بالاشارة الى انّ البحث تناولَ “شؤون وزارته وأوضاع الجيش”، قالت مصادر مطلعة لـ”الجمهورية” انّ البحث تناول تمنّع سليم عن توقيع المرسوم الذي أعدّته الأمانة العامة لمجلس الوزراء في شأن الحوافز للعسكريين بتوقيع رئيس الحكومة بالانابة عن مجلس الوزراء، ورفض سليم التوقيع عليه مفضّلاً توقيع الوزراء الـ 24 جميعهم على المرسوم.
ولفتت المصادر إلى أن البحث لم ينته الى اي تفاهم بين ميقاتي وسليم نتيجة اصرار كل منهما على مواقفه على رغم من اشارة مصادر ميقاتي الى ان المرسوم سيوقّع كما اقترح رئيس الحكومة، الأمر الذي لم يتحقق. وكانت مصادر ميقاتي قد تحدثت عن حركة احتجاج سيقودها العسكريون رفضاً لتوجهات سليم، وأنّ هناك اجتماعات لمختلف التنسيقيات في المناطق، من أجل اتخاذ القرارات المناسبة بشأن إمكانية تنفيذ تحركات في الشارع، اعتراضاً على رفض وزير الدفاع توقيع مرسوم منح المساعدة الإجتماعيّة.
واتهمت المصادر عبر موقع “ليبانون 24” القريب من ميقاتي “التيار الوطني الحر” بالسعي عبر هذا الاسلوب الى شَل العمل الحكومي من خلال فَرض أعراف جديدة، ومنع وزرائه من حضور الجلسات الحكومية، وتعطيل إصدار المراسيم الخاصة بالقرارات التي اتخذها مجلس الوزراء، لا سيما منها مرسوم التقديمات الاجتماعية للعسكريين والأسلاك الامنية كافة. وانتهت الى القول في إشارة تبرّر لسليم موقفه معتبرة انّ “وزير الدفاع موريس سليم، العميد السابق في الجيش، يبدو الاكثر إحراجاً بسبب تَمنّعه عن توقيع مرسوم المساعدة الاجتماعية، كما ورد إليه من رئاسة الحكومة، ما يحول دون صرفها”.
صدمة دولارية
وعلى الصعيدين المالي والنقدي فاجأ قرار مصرف لبنان المركزي امس، بالاعلان عن بيع الدولار على منصة صيرفة بسعر 38 الف ليرة، جميع الراغبين في شراء الدولار، ومن دون تحديد للسقف.
جاء هذا الاعلان بمثابة ضربة صاعقة للمراهنين على استمرار ارتفاع الدولار في اتجاه الخمسين الف ليرة قبل نهاية السنة. وسبق للدولار ان تجاوز الـ47 الف ليرة، قبل ان يصدر المركزي قراره. وفي خلال اقل من ساعة هبطَ سعر صرف الدولار بنحو دراماتيكي الى 42 الف ليرة. وتوقفت منصات التسعير عن العمل ربما بسبب الارباكات في التسعير، او بسبب الضغط الشديد عليها.
ماذا يعني هذا القرار، ما هي تداعياته، وكم يمكن ان يدوم؟
لا شك في انّ القرار يشبه القرارات التي سبق واتخذها مصرف لبنان في مراحل مختلفة من هذه السنة، ومن ضمنها التعميم الرقم 161 وتعديلاته اللاحقة. وهو يستند الى مبدأ ضَخ الدولارات في السوق، أي دعم الليرة، لخفض سعر الدولار. لكنّ قرار امس سيؤدي الى الامور الآتية:
اولاً – رفع سعر صيرفة “خبطة” واحدة من 32 الف ليرة الى 38 الف ليرة، سيزيد الضغوط المالية على الناس لجهة ان بعض الفواتير، ومنها فواتير الهاتف، يتم تسعيرها على اساس منصة صيرفة. كذلك الكهرباء التي سترتفع كلفتها على المواطن لتصل حالياً الى ما يوازي الـ40 الف ليرة للدولار.
ثانياً – انّ قبض الرواتب بالنسبة الى الموظفين سيتأثر سلباً بالقرار. وبعدما كان يأمل موظفو القطاعين العام والخاص تَقاضي رواتبهم في الشهر الاخير من السنة بالدولار على سعر صيرفة السابق، أي 32 الف ليرة، سوف يتقاضون هذه الرواتب على دولار 38 الف ليرة، بما سيخفض كثيرا هامش الربح الاضافي الذي كانوا سيحققونه فيما لو بقيت الامور على حالها قبل القرار.
ثالثاً – لن يستفيد المواطن في الايام القليلة المقبلة من انخفاض الدولار المفاجئ، لأن التجار الذين اشتروا السلع على دولار مرتفع وصل الى 47 الف ليرة، لن يقبلوا ان يخفضوا الاسعار اليوم، ولو ان الدولار في السوق الحرة انخفض الى 41 أو 42 الف ليرة.
رابعاً – الدولارات التي سيضخها مصرف لبنان عبر صيرفة هي من الاموال الاحتياطية الموجودة لديه. وبالتالي، لا نزال ندور في الحلقة المفرغة، والتي تعني ببساطة ان كل دولار يُنفقه المصرف المركزي يذهب من حصة المودعين وما تبقّى من حقوقهم.
خامساً – من البديهي ان مفعول صدمة القرار سيكون مؤقتاً، والارجح انه سيكون هذه المرة قصير المدى، بسبب تضاؤل قدرات المصرف المركزي على الدعم، وبسبب نمو الكتلة النقدية بالليرة والتي وصلت الى حدود الـ75 تريليون ليرة، الامر الذي يصعّب مهمة المركزي في السيطرة عليها.
إنعكاسات “صيرفة”
وكان مصرف لبنان وإزاء الارتفاع المذهل للدولار الذي تجاوز الـ 48000 ليرة لبنانية غداة عيد الميلاد، رفع سعر “صيرفة” الى ٣٨٠٠٠ ليرة . وقال في بيان ان ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي خلال فترة الأعياد، والتي امتدت لمدة ثلاثة ايام ٢٠٠٠ ليرة في السوق الموازية، ناتج عن عمليات مضاربة وتهريب الدولار خارج الحدود”. ورد السبب الى “التضخم في الأسواق مما أضَرّ بالمواطن اللبناني كون الأسعار في لبنان ترتبط بسعر صرف الدولار”.
واضاف انه، وبناءً على ذلك وعلى أساس المواد ٧٥ و ٨٣ من قانون النقد والتسليف، تقرر رفع سعر “صيرفة” ليصل الى ٣٨٠٠٠ ليرة. وان مصرف لبنان يشتري كل الليرات اللبنانية ويبيع الدولار على سعر “صيرفة”، ويمكن للأفراد والمؤسسات ودون حدود بالأرقام ان يتقدموا من جميع المصارف اللبنانية لتمرير هذه العمليات. وذلك حتى إشعار آخر.
فواتير الخلوي تُحلّق
وفي الوقت الذي تدهور فيه سعر صرف الدولار نحو اربعة آلاف ليرة في خلال ساعتين وتراجعه الى حدود 43 ألف ليرة وقبل ان يرتفع مجددا الى منتصف الفارق بين السعرين، كانت فواتير الاتصالات الهاتفية الخلوية وغيرها من الأسعار التي اعتمدت على اساس سعر “صيرفة” تُحلّق لتطالب اللبنانيين بزيادات مالية تتراوح بين 18 و22 % بفِعل رفع السعر بنحو ستة آلاف وثمانمئة ليرة للدولار الواحد، وهو ما أدى إلى بلبلة في أسواق الخدمات الخلوية والاسعار الاخرى المحتسبة على أساسها.
محقّقون أوروبيون
في غضون ذلك نقلت وكالة “فرانس برس” أمس عن مسؤول قضائي قوله ان محققين أوروبيين سيزورون لبنان الشهر المقبل في إطار تحقيقات يجرونها حول ثروة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
وقبل أشهر، جمّدت فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ 120 مليون يورو من الأصول اللبنانية في إطار تحقيقات حول سلامة في قضايا تبييض أموال واختلاس في لبنان.
وقال المسؤول القضائي اللبناني، طالباً عدم الكشف عن اسمه كونه غير مخوّل الحديث للاعلام، إن “وفوداً تضمّ مدّعين عامّين وقضاة تحقيق ومدّعين عامّين ماليين من ألمانيا ولوكسمبورغ وفرنسا (…) ستصل إلى بيروت تباعاً بين 9 و20 كانون الثاني”. وتهدف الزيارة إلى استكمال تحقيقات عالقة في قضايا مالية مرتبطة بسلامة.
وأضاف هذا المسؤول أن السلطات المعنية في الدول الثلاث أبلغت الى النائب العام التمييزي في لبنان غسان عويدات أنها تنوي “التحقيق مع سلامة ومسؤولين في مصرف لبنان ومدراء مصارف تجارية”.
وأشار إلى أن الوفود القضائية لم تطلب مساعدة القضاء اللبناني “بل جُلّ ما فعلوه هو إخطار لبنان بمواعيد وصول الوفود وتاريخ الاستجوابات التي سيجرونها، وأسماء الذين سيخضعون للتحقيق”، وبينهم سلامة.
ويواجه سلامة شكاوى كثيرة ضده في لبنان ودول أوروبية، لكنه طالما نفى الاتهامات الموجهة إليه، معتبراً أن ملاحقته تأتي في سياق عملية “لتشويه” صورته.
وتحقّق سويسرا منذ نحو عامين بعمليات اختلاس أموال “تضر بمصرف لبنان” يُشتبه بوقوف سلامة وشقيقه خلفها، وقُدّرت بأكثر من 300 مليون دولار. ومنذ تموز2021، يحقق القضاء المالي الفرنسي في ثروة سلامة، وقد وجّه بداية الشهر الحالي لامرأة أوكرانية مُقرّبة منه اتهامات بينها غسل أموال واحتيال ضريبي. وفي 28 آذار 2022، أعلنت وحدة التعاون القضائي الأوروبية “يوروجاست” أن فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ جمّدت 120 مليون يورو من الأصول اللبنانية إثر تحقيق استهدفَ سلامة وأربعة من المقرّبين منه بتهم تبييض أموال و”اختلاس أموال عامة في لبنان بقيمة أكثر من 330 مليون دولار و5 ملايين يورو على التوالي، بين 2002 و2021″. وفي لبنان، يواجه سلامة قضايا عدة بينها تحقيق محلي بشأن ثروته بناء على التحقيق السويسري، إلا أنها لم تصل إلى أي نتيجة. وعلى رغم من الشكاوى والاستدعاءات والتحقيقات ومنع السفر الصادر بحقه في لبنان، لا يزال سلامة في منصبه الذي يشغله منذ عام 1993، ما جعله أحد أطول حكام المصارف المركزية عهداً في العالم. ومن المفترض أن تنتهي ولايته في أيار 2023.
ومنذ بدء الانهيار الاقتصادي في 2019 وفقدان الليرة اللبنانية أكثر من 95 في المئة من قيمتها، يتعرض سلامة لانتقادات حادة لسياساته النقدية في اعتبار أنها راكَمت الديون. لكنه دافع مراراً عن نفسه قائلاً إن المصرف المركزي “مَوّل الدولة، ولكنه لم يصرف الأموال”، محمّلاً المسؤولين السياسيين مسؤولية الانهيار.
رئيس الحكومة الإسبانية
من جهة ثانية، يصل الى بيروت في الساعات المقبلة رئيس الحكومة الاسبانية بيدرو سانشيز ترافقه وزيرة الدفاع الإسبانية مارغريتا روبلز، حيث يلتقيهما بري وميقاتي كلّ على حدة عصر اليوم في السرايا الحكومية وعين التينة، في حضور السفير الاسباني في لبنان خيسوس سانتوس إغوادو والوفد المرافق، ثم يتفقّد المسؤول الاسباني وحدة بلاده في اطار القوات الدولية “اليونيفيل” العاملة في الجنوب.