بين مشهدين قضائيين متوازيين لا يلتقيان تحت قوس العدالة، عكست صورة “التحقيق البوليسي” مع أهالي ضحايا انفجار المرفأ مقابل صورة التحقيق الأوروبي في الشبهات المالية التي تحوم حول حاكم مصرف لبنان وأعوانه من الأقارب والمقرّبين والمصرفيين، الواقع اللبناني المرير تحت سطوة منظومة فاسدة دجّنت القضاء المحلّي وسخّرته لترسيخ سطوتها على مؤسسات الدولة وترهيب الناس وطمس الحقائق وتكريس مبدأ الإفلات من العقاب، حتى إذا لاحت بارقة عدالة دولية أمام أعين اللبنانيين المكلومين سارع “أشاوسة” السلطة إلى شيطنتها وعرقلتها خشية افتضاح المستور في أقبية الفساد والجرائم المالية وغير المالية المرتكبة بحق البلد وأبنائه، كما هو حاصل اليوم مع التحقيق الأوروبي في شبهات تبييض الأموال واختلاس المال العام.
وأمس شهد قصر العدل جلسات استماع ماراتونية استمرت حتى المساء عقدها محققون من ألمانيا وفرنسا ولوكسبمورغ مع عدد من الشهود من بينهم أحد النواب السابقين لحاكم مصرف لبنان سعد العنداري بحضور القاضيين عماد قبلان وميرنا كلاس التي تولت طرح الأسئلة نيابةً عن الوفد الأوروبي بمشاركة مترجمين يتولون مهمة الترجمة الفورية لأجوبة الشهود، بينما تغيّب العضو السابق للجنة الرقابة على المصارف خليل آصاف عن الحضور “بمعذرة طبية”، على أن يستأنف الوفد جلساته اليوم بالاستماع إلى إفادة كل من أحمد جشي، النائب السابق للحاكم، ورئيس مجلس إدارة “بنك الموارد” مروان خير الدين.
أما حكومياً، فاستأنفت “حرب المراسيم” جولاتها أمس بين وزير الطاقة ورئيس حكومته على نية تمرير الاعتمادات المالية لسلف الكهرباء، غير أنّ مصادر حكومية شددت على أنّ “ما كُتب قد كُتب” في إشارة إلى تأمين النصاب اللازم لانعقاد مجلس الوزراء غداً بغية إقرار بندي الكهرباء “وفق الأصول الدستورية بعيداً عن بدعة المراسيم الجوّالة“.
ورأت أوساط سياسية مواكبة أنّ الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي ربحا عملياً “جولة الكهرباء” على حلبة الاشتباك الحكومي مع رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل “فاستطاعا انتزاع جلسة حكومية ثانية بموافقة “حزب الله”، بينما خسر باسيل في المقابل الرهان الذي كان يعقده بأن يسفر التصعيد الذي اعتمده تجاه “الحزب” إثر الجلسة الأولى إلى دفعه لعدم تغطية انعقاد مجلس الوزراء مجدداً”، معربةً عن اعتقادها بأنّ وراء تأمين “حزب الله” النصاب للجلسة غداً رسالة مبطّنة لباسيل مفادها أنّ “التهويل بفك تحالف مار مخايل لن يوصل إلى أي نتيجة” مع إبداء الحرص في الوقت عينه على عدم تصعيد وتيرة التوتر بين الجانبين من خلال قرار حصر مشاركة “الحزب” في مجلس الوزراء بمسألة إقرار بندي الكهرباء دون سواهما.
توازياً، وبعد ورود تقارير إعلامية عمدت إلى تأويل كلام رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع عن عدم ممانعته انعقاد حكومة تصريف الأعمال في حال الضرورة، باعتباره تصريحاً يؤمّن “الغطاء المسيحي” لانعقاد جلسة الغد، أوضحت مصادر “القوات” لـ”نداء الوطن” أنه “لو إقتصر جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء على البندين الأولين لا غير، والمتعلقين بملف الكهرباء، لكانت أيدّت “القوات” إنعقادها نظراً للضرر المتفاقم اللاحق بميزانية الدولة من جهة، وللغرامات المتراكمة جرّاء عدم إفراغ البواخر حتى تاريخه، ولإمكانية إنقطاع الكهرباء جرّاء فقدان الفيول، ونظراً لحاجة الناس إلى التيار الكهربائي، وسعياً للتوفير على جيوبهم. لكن أمّا وقد شمل جدول الأعمال خمسة بنود إضافية، لا تتّسم بالضرورة والعجلة الطارئة، فإن حزب “القوات اللبنانية” ليس مع إنعقاد هذه الجلسة الحكومية تحديداً، للأسباب المبيّنة أعلاه“.
وفي خضمّ التخبط الحكومي بين أركان السلطة والتمادي الحاصل في تهميش الاستحقاق الرئاسي وإطالة أمد الشغور، عبّرت مصادر سياسية مطلعة على الموقف الفرنسي عن خيبتها إزاء المقاربة السياسية التي تعتمدها إدارة الرئيس أيمانويل ماكرون تجاه الحلول اللازمة للأزمة اللبنانية، ونقلت عن مسؤولين فرنسيين تحميلهم مسؤولية مباشرة إلى “فشل سياسة ماكرون” إزاء حالة المراوحة القاتلة التي يعيشها لبنان، تحديداً منذ انفجار 4 آب في مرفأ بيروت وما أعقبه من تصريحات ومواقف فرنسية متخبطة ومتراخية في التعاطي مع الطبقة السياسية الحاكمة وصولاً إلى “المفارقة العجيبة” في تصريحه الأخير الذي أشاد فيه برئيس حكومة تصريف الأعمال باعتباره “إصلاحياً“.
وفي ضوء ذلك، رأت المصادر أنه “لا أمل في تغيير نظرة الإدارة الفرنسية حيال الملف اللبناني ما دام الممسكون به لم يتغيّروا”، مؤشّرة على وجه الخصوص إلى “إيمانويل بون وبرنارد إيمييه اللذين يقفان في صدارة المسؤولين الفرنسيين المولجين بمتابعة الشأن اللبناني، لا سيما وأنهما حوّلا العلاقات والمصالح التاريخية التي تجمع فرنسا ولبنان إلى مجرد نوع من “السمسرة” لأصدقائهما من المسؤولين اللبنانيين على حساب لبنان وشعبه“.