ضمن “برواز” الوسطية والاعتدال، حرص رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي على تأطير إطلالته على اللبنانيين مساءً في إطار صورة طوباوية متفانية في العمل في سبيل تخفيف أعباء الأزمة عن كاهلهم والسير بين حقول الألغام السياسية لتسيير شؤون الدولة بالتي هي أحسن، لكنه لم يملك تقديم أي جديد حاسم في طمأنتهم إلى مصيرهم في ظل انسداد الآفاق الإصلاحية والإنقاذية وتحصّن بحالة التأزم الرئاسي، مؤكداً أنّ مجرد انتخاب رئيس جديد للجمهورية يؤدي إلى خفض سعر الدولار “لحدود 30 ألف ليرة”، وكاشفاً في الوقت عينه عن “مضاعفة” عملية سحب الدولار من لبنان إلى سوريا في الآونة الأخيرة و”خروج دولارات إلى مصر أيضاً”.
أما في جوهر الأزمة وعمقها على مستوى العلاقات العربية بلبنان، فجاءت المفاجأة المدوية من العيار الثقيل من خلال ما نقله رئيس الحكومة عن لسان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان خلال لقائهما الأخير حين قال له: “هناك فريق في لبنان يتآمر على المملكة العربية السعودية ولن نقدّم أي مساعدة للدولة اللبنانية طالما أنّ “حزب الله” يتآمر علينا ويقدّم مساعدات عسكرية لمن يقاتلنا في اليمن”، مجدداً التأكيد في المقابل على الاستمرار في مساعدة اللبنانيين عبر الصندوق الفرنسي – السعودي “حصراً” في المرحلة الراهنة.
وفي المشهد الداخلي المتأزم، لم يفوّت ميقاتي فرصة التصويب المباشر على “التيار الوطني الحر” بوصفه “تيار التعطيل” وتهجير المسيحيين، وكان الأبرز في مضامين كلامه ما أكده لجهة وجود فريقين في البلد يتقاطعان في تعطيل انتخابات الرئاسة، الأول ينتهج سياسة “الأرض اليابسة ويقول خلينا نروح على الانهيار ونبني من جديد” (في إِشارة إلى “التيار الوطني” دون تسميته) والثاني يرفض انتخاب رئيس للجمهورية “إلا اللي بدو ياه لكنه يريد الاستقرار” (في إِشارة إلى “حزب الله” دون تسميته). وفي ما يتصل بمسألة التمديد للمدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، اكتفى بالتأكيد على كونه يعمل على إيجاد فتوى قانونية للتمديد له بقرار يتخذه رئيس الحكومة ووزير الداخلية من دون الحاجة إلى مجلس الوزراء “وإن شاء الله خير”.
وفي الشأنين المصرفي والمالي، كشف رئيس الحكومة أنّ المصارف بصدد “فك الإضراب خلال الساعات الـ48 المقبلة” مؤكداً أنه لفت نظر القضاء إلى ضرورة “تنظيف نفسه” في ضوء الاعتراضات التي وصلته على أداء القاضية غادة عون الهدّام للقطاع المصرفي واستسهال “الشمولية في توجيه تهم تبييض الأموال”، كما جدّد لازمة التعهّد بإعادة “كل الودائع التي كانت موجودة في المصارف قبل شهر تشرين الأول من العام 2019″، موضحاً أنّ كل وديعة دون سقف الـ100 ألف دولار سيتم ردّها “جزء بالدولار وجزء بالليرة على سعر السوق”، وباقي الودائع التي تفوق هذا المبلغ ستحال إلى “صندوق استعادة الودائع” الذي ستساهم فيه الدولة عبر استثمارات معينة، ومصرف لبنان عبر السندات وإعادة الرسملة، والمصارف التجارية عبر أسهم فيها، بالإضافة إلى إضافة بند في عملية تمويل هذا الصندوق ينص على “استعادة الأموال المنهوبة”، لكنه لفت إلى عدم وجود “سقف زمني محدد” للمدة اللازمة لعملية ردّ الأموال إلى المودعين.
وفي الأثناء، تترقب الأوساط المالية والمصرفية بكثير من القلق تقرير مجموعة العمل المالي الدولية، مع توقّع تصنيف لبنان في “القائمة الرمادية” وعدم استبعاد تصنيفه في “القائمة السوداء” (التي تضم دولاً مثل إيران وكوريا الشمالية). ذلك التقييم يعكس مدى صرامة التشريعات ونجاعة الاجراءات التي تتخذ لمكافحة تبييض الاموال وتمويل الارهاب. وذكرت مصادر مطلعة أنّ “تقييم لبنان المرتقب متعلق بسلبيات ومخاطر الاقتصاد النقدي (كاش إيكونومي) وتوسع مؤسسة القرض الحسن التابعة لحزب الله”.
وكان وفد مجموعة العمل المالي المعروفة اختصاراً باسم “FATF” (Financial Action Task Force)، قد زار لبنان السنة الماضية، وأجرى جملة لقاءات مع قطاعات المال والمصارف والجمارك والقضاء للوقوف من كثب على كل الإجراءات والتشريعات الخاصة بمكافحة تبييض الاموال وتمويل الارهاب. وقالت مصادر معنية إنّ “تقريراً سيصدر في الاسابيع المقبلة، وليس مستبعداً، بحسب المعلومات الأولية، تصنيف لبنان في القائمة الرمادية التى تضم دولاً مثل باكستان وسوريا واليمن. ما يعني التعرض لمزيد من التدقيق في التعاملات المالية والمصرفية مع لبنان، وتضييق الخناق على الأموال الصادرة من لبنان والداخلة إليه”.
وبين العوامل التي تجعل لبنان “بؤرة للتبييض”، انتشار الاقتصاد النقدي على نطاق واسع بعد انهيار القطاع المصرفي وتوسع الدولرة لتصل إلى أكثر من 80% من كثير من التعاملات في موازاة تداول أكثر من 90 ترليون ليرة . والأخطر ، بحسب المصادر المصرفية، “توسع مؤسسة القرض الحسن على أنقاض المصارف وافتتاحها مؤخراً 4 فروع جديدة حتى وصل عدد فروعها الى 31، خصوصاً أنّ هذه المؤسسة تمارس الإقراض والإيداع والرهن”. وقدرت المصادر تسليفاتها بنحو 20% من إجمالي التسليفات الباقية في ذمة القطاع الخاص والممنوحة من القطاع المصرفي.
ففي موزاة توسع مؤسسة “القرض الحسن”، كان القطاع المصرفي ومنذ بداية الأزمة يقفل فروعاً بالمئات في الداخل والخارج، ويسرح الموظفين بالآلاف. فذلك التوسع، بحسب مصادر رقابية، “مقلق جداً، لأنّ أعمال القرض الحسن، بما في ذلك ماكينات السحب الآلي، تجري خارج أي رقابة، ولا تتقيّد بقانون النقد والتسليف، وثمة شكوك كثيرة حول تسرّب أموال من تلك الأعمال الى النظام النقدي العام مع إمكان تحويل أموال إلى الخارج أو استقبال تحويلات عبر أسماء أفراد وشركات رسمية في تأسيسها وأعمالها الظاهرية”.
ويقدّر عدد عملاء القرض الحسن بشكل مباشر وغير مباشر بنحو 500 ألف، والمقصود بـ”غير المباشر” هو التسرّب إلى متعاملين في الاقتصاد عموماً بمختلف قطاعاته. والمقلق للجهات الدولية يكمن في أنّ “هوية المتعاملين مع القرض الحسن غير معروفة لدى الجهات الرقابية المحلية”. كما أشارت المصادر إلى “رهونات الذهب” مقابل القروض، وتعاملات أخرى بالذهب كما يحصل ربما في تعاملات إيرانية عبر الحدود لتجاوز العقوبات.