كتبت صحيفة “الأخبار”: قد يكون جبران باسيل نجح في خطة إيجاد مرشح لتقديمه عنواناً لمعركة إسقاط سليمان فرنجية. لباسيل رأيه في فرنجية وترشيحه وكل ما يخصّه. وهو رأي أراد أن يقنع به حزب الله على وجه التحديد، لكن تعذّر هذه المهمة، دفعه إلى حسابات تنطلق من قاعدة جديدة، أساسها إعادة التموضع في الاصطفافات الداخلية. لا توجد إشارات حاسمة تدلّ على أن باسيل انتقل إلى موقع سياسي «استراتيجي» آخر. وفي المقابل، ليست هناك إشارات حاسمة بأنّ الطرف الآخر ينتظره عند الضفة الثانية من النهر، بما في ذلك المحاولات المستمرة لقطر التي تتولّى منذ عام 2011 «المهام القذرة» للفريق الذي ترعاه الولايات المتحدة.
انتهت مناورة باسيل إلى وضع جهاد أزعور في مواجهة سليمان فرنجية. ثمّة نقاش لا يفيد الآن في كيفية حصول الأمر. بمعنى، هل كان أزعور نفسه يريد الوصول إلى هذه النقطة، أم كان عليه إرساء ضوابط تمنع استخدامه في معركة تبدو أكبر منه؟ هذه نقطة للبحث الدائم مع أزعور نفسه ومع داعميه، وحتى مع خصومه الذين سبق أن حاوروه على مدى شهور عدة. النتيجة التي وصلنا إليها اليوم أن المُحرَجين الذين قبلوا بأزعور مرغمين – على ما قال سمير جعجع نفسه – تصرّفوا بعد إعلان الترشيح على أن الأمور باتت مختلفة، وعادوا إلى لغة المواجهة المفتوحة مع حزب الله، معتقدين أن رفع السقف من شأنه تعزيز مواقعهم الشعبية الداخلية ويغطي على «فضيحة» رضوخهم لطلبات خصمهم الأول، باسيل، ويفترضون في الوقت نفسه أن الخارج يصبح معنياً أكثر عندما يُرفع الصوت في وجه حزب الله، ويراهنون على تبدّلات جوهرية في الموقفين الأميركي والسعودي.
إذا عدنا قليلاً إلى الوراء، كانت فكرة الراعي – باسيل، تقوم على إنجاز توافق مع الآخرين على اسمين على الأقل. لكن تبادل الفيتوات ترك اسم أزعور وحده. اعتقد الراعي وباسيل بأنه يمكن العمل، بناءً على هذه النتيجة، على إطلاق حوار مع الثنائي أمل وحزب الله داخلياً، ومع فرنسا والسعودية خارجياً. وبناءً عليه، سافر الراعي إلى روما وباريس، وفي لقائه مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، لم يسحب من جيبه لائحة المرشحين الخمسة أو الستة، بل قال إن هناك مرشحاً واحداً هو جهاد أزعور، وإن كتلاً نيابية كبيرة ولا سيما في الوسط المسيحي توافق عليه، وإن على فرنسا إدارة النقاش بطريقة مختلفة. واتّكل الراعي على كلام وصل إلى الفرنسيين من مسؤولين في الفاتيكان، بأن هناك شعوراً لدى الحلفاء التاريخيين لفرنسا في لبنان بأن باريس تخذلهم وتتركهم من جديد، وأنها بعدما فضّلت عليهم الشريك السني رفيق الحريري، تفضّل اليوم الشريك الشيعي حزب الله، مع نصيحة بأن «تقوم فرنسا بخطوات لئلا تخسر من هم أكثر ثباتاً في العلاقة معها».
وأكّد الراعي لماكرون ما اتفق عليه مع المسؤولين في الفاتيكان، لجهة أن إنجاز المهمة يتطلب وقف أي سجال يقود إلى خلافات طائفية حادّة، وعدم السير بخطوات تنفيذية ترفع منسوب التوتر، وإعداد جولة جديدة من الاتصالات الداخلية والخارجية. وفي هذه النقطة، كان باسيل وحده – من الفريق الداعم لأزعور – من لاقى الراعي في خطابه في جبيل السبت الماضي. لكنّ الأمر لم يكن على هذا النحو لدى جعجع ولا لدى «الثوار» من المنقلبين على سعد الحريري! وفي هذه الأثناء، كان الجدل حول الدعوة إلى جلسة جديدة لمجلس النواب يأخذ طابع التحدي مع بري. وجرى تسريب أخبار ومعلومات وبيانات عن تهديدات خارجية بعقوبات وخلافه من الهلوسات التي تنفّر أصحاب القرار في واشنطن قبل غيرهم.
اعتقد الراعي وباسيل – ولمرة جديدة ينظران بطريقة خاطئة إلى طريقة تفكير حزب الله – بأن الاتفاق مع الحزب أو الحوار معه يكفي، بعد تثبيت ترشيح أزعور، لإطلاق المرحلة الثانية عبر حوار لجعله مرشحاً توافقياً. فكثّفا الحملات على الرئيس نبيه بري والضغط عليه، بتحميله مسؤولية فشل العهد السابق ومسؤولية عدم انعقاد جلسة المجلس النيابي. والأخطر، أن الراعي وباسيل أهملا أن أزعور نفسه، كان يتّكل كثيراً على موقف بري، وهو أصلاً كان زاره مرات عدة لمناقشته في الأمر ولو بصورة غير رسمية. كما نسيا أن أزعور يأتي من تركيبة تهتم كثيراً بموقف الطرف الآخر. وكانت النتيجة ارتفاع منسوب التوتر بين بري والراعي معطوفاً على توتر قائم أصلاً مع باسيل، ولا يمكن الحديث عن عدم وجوده لمجرّد وجود اتصالات جانبية.
عند هذه النقطة، دعا بري إلى جلسة في 14 حزيران، ولم يعط مبادرة الراعي الحوارية أي مساحة زمنية جادة. بل تصرّف ببرودة إزاء دعوة البطريرك له للحوار، وتحدّث عن صفات المرشح الجدّي وغير الجدّي، وبقي ممسكاً بمفاتيح المجلس النيابي. وبمجرد الدعوة إلى الجلسة، أسقط عن أزعور فكرة المرشح التوافقي لأنه سيكون مرشح مواجهة مع الطرف الذي يمثله بري. واستبق بري خطوته بإبلاغ كل من يهمهم الأمر، الراعي وأزعور وآخرين، بتمسكه بترشيح فرنجية.
عملياً، تلقّى الراعي تحديد بري موعداً للجلسة كخبر سيّئ، كضغط مضاعف على أزعور بعدما تحول إلى مرشح تحدّ ومواجهة وإلى خصم سياسي في حال قبل المهمة. علماً أن الراعي تلقّى بإيجابية نتائج زيارة موفده المطران بولس عبد الساتر للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، إذ إن الأخير أكّد للموفد أن للحزب مرشحه وهو متمسك به، وأن أزعور ليس مرشحاً توافقياً، لكنه شدّد على أن الحزب، والشيعة في لبنان وكل المسلمين، لا يريدون الذهاب إلى مستوى جديد من التوتر على خلفية طائفية أو حتى سياسية، وأن الحزب يريد التعامل بهدوء مع الأمر.
عملياً، يتصرف الفريق الداعم لفرنجية مع أزعور على قاعدة أنه يقبل، حتى اللحظة، بأن يكون واجهة لمعركة إقصاء وليس عنواناً لتفاهم أو توافق. وبالتالي، قرّر هذا الفريق عدم التعامل معه كمرشح يمكن حصول توافقات حوله، بل كمرشح يرضى بأن يخوض معركة قرّرها غيره، هدفها إطاحة فرنجية لا إيصاله إلى بعبدا. وهو موقف تم إبلاغه أيضاً للأطراف الخارجية المعنية بالملف الرئاسي.
وفي هذه النقطة بالتحديد، يبدو واضحاً أن البطريرك الراعي أولاً، وجهاد أزعور ثانياً، فهما بأن الحشد النيابي والسياسي الداخلي والخارجي لإيصال أزعور إلى الرئاسة لا يمنحه عنصر تفوّق في المعركة نفسها، ولا في حال وصل إلى بعبدا، إذ إن رغبته بالعمل ضمن سياق يحقق فيه نتائج واضحة لم تعد مطابقة لطبيعة المعركة، والتوافق الذي ينشده مع الرئيس بري، بوصفه رئيساً للمجلس النيابي، أو مع حزب الله بوصفه قوة كبيرة ومؤثّرة محلياً وإقليمياً، لم يعد موجوداً، ما يعني أنه سيكون في مواجهة أزمة كبيرة، وسينطلق عهده – إذا وصل إلى بعبدا – من حيث انتهى إليه عهد الرئيس ميشال عون: دائرة مغلقة أمام أي تفاهمات تسمح بإطلاق عملية الإصلاح.
جنبلاط يمسك بالمفتاح: مواجهة شاملة أم هدوء؟
معركة جمع الأصوات الجارية مجرّد قشرة تخفي تحتها معركة توضيح المواقف. القوات اللبنانية، ومعها الكتائب وبقية القوى المؤيدة للمرشح جهاد أزعور، تستعجل الصدام انطلاقاً من حسابات تطيح سليمان فرنجية وأزعور معاً، والعودة إلى ترشيح قائد الجيش العماد جوزيف عون الذي يبدو أنه، أيضاً، دخل في مرحلة «الهوس الرئاسي»، باعتبار ما يجري مناسباً لمعركته. وهناك كثير من الكلام عمّا يفعله قائد الجيش، وللحديث حوله صلة.
لكنّ الأنظار تتجه فعلياً نحو موقف وليد جنبلاط. صحيح أن كتلته المؤلفة من ثمانية نواب غير وازنة بالمعنى العددي، لكن لموقف جنبلاط أثره المتعدد الأوجه:
ففي حال قرّر السير بأزعور، وهو مرشحه الأول، فهذا يعني الدخول في معركة مع الفريق الداعم لفرنجية، وهي خطوة تخالف كل توجهاته في المرحلة الأخيرة، والتي يردد فيها كلمة الحوار أكثر من أي شيء آخر. كما أنها معركة لا تنتهي يوم الاقتراع، بل ستكون لها تداعياتها، خصوصاً على العلاقة التاريخية التي تربطه بالرئيس نبيه بري، والأخير يعيش لحظات «حيرة» هي الأولى من نوعها، حتى بات يقول: «هذا ليس وليد الذي أعرفه»!
وإلى جانب المناخ غير المناسب لمعركة مع حزب الله، فإن جنبلاط يعرف أن المزاج السني (بعيداً عن هلوسات أشرف ريفي ووضاح الصادق وفؤاد مخزومي) ليس قريباً من تطلعات جبران باسيل وسمير جعجع. بل يعرف جيداً أن المتأثرين بموقف آل الحريري سمعوا من الرئيس سعد الحريري، قبل انتقاله إلى منفاه، أن عليهم عدم الوثوق بشخصين هما باسيل وجعجع. ولدى الحريري مطالعة حول الأسباب.
رغم ذلك، فإن جنبلاط اعتاد مغامرات اللحظة غير المناسبة. بعد ما فعله في عام 2005، وقاله وعمل عليه خلال عدوان 2006، وما عاد واعترف به حول ما جرى في 5 أيار 2008… ما من شيء يضمن ألّا يسير بقدميه نحو هاوية جديدة، ظناً منه بأنها معمودية النار لنجله تيمور. علماً أنه كان عليه الانصياع لرأي نجله يوم اختيار النواب وليس في هذه اللحظة بالذات.
ولذلك، فإن مسار المواجهة محكوم إلى درجة بعيدة بالموقف الذي سيخرج به جنبلاط. فهو، فقط، من يمكنه أن يناقش البطريرك بشارة الراعي في الأمر، أكثر من بري أو أي مسؤول آخر. وفي حال قرّر إدارة ظهره للمعطيات الخطيرة التي تحيط بالملف الرئاسي، يكون كمن ينفخ في نار معركة قاسية على الجميع. كما له، في المقابل، تأثيره العملاني، وليس المعنوي، على أزعور نفسه، إذ يمكنه أن يحمل السلم الذي يحتاج إليه أزعور للنزول عن الشجرة!
ربما ليس مبالغاً فيه القول إن مصير أمور كثيرة يتوقف على ما سيعلنه جنبلاط في الساعات المقبلة… بيده الذهاب نحو مواجهة لا تبقي ولا تذر، أو وقف المسار الصدامي الحالي.